فصل: المقصد الثاني عشر في ذكر قواعدها المستقرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثاني عشر في ذكر قواعدها المستقرة:

وهي ثلاث قواعد، قد تقاربت واختلطت حتى صارت كالقاعدة الواحدة.
القاعدة الأولى مدينة الفسطاط:
بفاء مضمومة وسين مهملة ساكنة وطاء مهملة مفتوحة بعدها ألف ثم طاء ثانية في الآخر.
ويقال فيه فسطاط بإبدال الطاء الأولى تاء وفسطاط، قال الجوهري: وكسر الفاء لغة فيهن، وهي المدينة المعروفة بين العامة بمصر واسمها القديم باب أليون.
قال أبو السعادات بن الأثير في نهايته: بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الياء المثناة تحت وسكون الواو ونون في الآخر.
قال القضاعي: وهو اسمها بلغة الروم والسودان ولذلك يعرف القصر الذي بالشرق بباب أليون، وموقعها في الإقليم الثالث من الأقاليم السبعة.
قال في كتاب الأطوال: وطولها ثلاث وخمسون درجة، وعرضها ثلاثون درجة وعشر دقائق.
وقال في القانون: طولها أربع وخمسون درجة وأربعون دقيقة، وعرضها تسع وعشرون درجة وخمس وخمسون دقيقة.
وقال ابن سعيد: طولها ثلاث وخمسون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها تسع وعشرون درجة وخمس وخمسون دقيقة.
وقال في رسم المعمور: طولها أربع وخمسون درجة وأربعون دقيقة، والذي عليه عمل أهل زماننا في وضع الآلات وغيرها طول خمس وخمسين درجة، وعرض ثلاثين.
واختلف في سبب تسميتها بالفسطاط، فقال ابن قتيبة: إن كل مدينة تسمى فسطاطاً ولذلك سميت مصر الفسطاط.
وقال الزمخشري: الفسطاط اسم لضرب من الأبنية في القدر دون السرادق والذي عليه الجمهور أنه يسمى بذلك لمكان فسطاط عمرو بن العاص رضي الله عنه يعني خيمته، وذلك أن عمر لما فتح الحصن المعروف بقصر الشمع في سنة إحدى وعشرين من الهجرة واستولى عليه ضرب فسطاطه على القرب منه، فلما قصد التوجه إلى الإسكندرية لفتحها، أمر بنزع فسطاطه للرحيل، فإذا بحمام قد أفرخ فيه فقال: لقد تحرم منا بحرم، وأمر بإقرار الفسطاط مكانه، وأوصى على الحمام، وسار إلى الإسكندرية ففتحها، ثم عاد إلى فسطاطه ونزل به ونزل الناس حوله، وابتنى داره الصغرى التي هي على القرب من الجامع العتيق مكان فسطاطه وأخذ الناس في الاختطاط حوله فتنافست القبائل في المواضع والاختطاط، فولى عمرو على الخطط معاوية بن حديج التجيبي، وشريك بن سمي الغطيفي، وعمرو بن قحزم الخولاني، وحيويل بن ناشرة المعافري، ففصلوا بين القبائل وأنزلوا الناس منازلهم، فاختطوا الخطط وبنوا الدور والمساجد وعرفت كل خطة بالقبيلة أو الجماعة التي اختطتها أو بصاحبها الذي اختطها.
فأما الخطط والأدر التي عرفت بالقبائل والجماعات: فمنها خطة أهل الراية، وهم جماعة من قريشٍ، والأنصار، وخزاعة، وأسلم، وغفارٍ، ومزينة، وأشجع، وجهينة، وثقيف، ودوسٍ، وعبس بن بغيضٍ، وجرش من بني كنانة، وليث بن بكر، لم يكن لكل منهم من العدد ما ينفرد به بدعوة من الديوان فجعل لهم عمرو بن العاص رايةً لم بنسبها إلى أحد. وقال: يكون وقوفكم تحتها، فكانت لهم كالنسب الجامع، وكان ديوانهم عليها فعرفوا بأهل الراية، وانفردوا بخطة وحدهم، وخطتهم من أعظم الخطط وأوسعها.
ومنها خطة مهرة، وهم بنو مهرة بن حيدان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة ابن مالك بن حمير، من قبائل اليمن.
ومنها خطة تجيب، وهم بنو عدي وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السكن بن الأشرس بن كندة، وتجيب اسم أمهما عرفت القبيلة بها.
ومنها خطط لخم، وهي ثلاث: الأولى: بنو لخم بن عدي بن مرة بن أدد ومن خالطهم من جذام.
والثانية بنو عبد ربه بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة بن لخم. والثالثة: بنو راشدة بن أذب بن جزيلة بن لخم.
ومنها خطط اللفيف: وهم جماعة من القبائل تسارعوا إلى مراكب الروم حين بلغ عمراً قدومهم الإسكندرية عند فتحها، فقال لهم عمرو وقد استكثرهم، إنكم لكما قال الله: {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً} فسموا اللفيف من يومئذ.
ومنها خطط أهل الظاهر، وهم جماعة من القبائل قفلوا من الإسكندرية عد قفول عمرو بن العاص، فوجدوا الناس قد أخذوا منازلهم، فتحاكموا إلى معاوية بن حديج الذي جعله عمرو على الخطط، فقال لهم: إني أرى لكم أن تظهروا على هذه القبائل فتتخذوا لكم منازل، فسميت منازلهم الظاهر.
ومنها خطط غافق، وهم بنو غافق بن الحارث بن عك بن عدثان بن عبد الله بن الأزد.
ومنها خطط الصدف بفتح الصاد وكسر الدال المهملتين. وهم بنو مالك ابن سهل بن عمرو بن حمير من قبائل اليمن، وقيل بنو مالك بن مرقع بن كندة، سمي الصدف لأنه صدف بوجهه عن قومه حين أتاهم سيل العرم. ومنها خطط خولان، وهم بنو خولان بن عمرو بن مالك بن زيد بن عريب.
ومنها خطط الفارسيين، وهم بقايا جند باذان، عامل كسرى ملك الفرس على اليمن.
ومنها خطط مذحج، وهم بنو مالك بن مرة بن أدد بن زيد بن كهلان بن عبد الله.
ومنها خطة يحصب، وهم بنو يحصب بن مالك بن أسلم بن زيد بن غوث بن حمير.
ومنها خطة رعينٍ، وهم بنو رعين بن زيد بن سهل بن يعفر بن مرة بن أدد.
ومنها خطة بني الكلاع، وهو الكلاع بن شرحبيل بن سعد بن حمير.
ومنها خطة المعافر، وهم بنو المعافر بن يعفر بن مرة بن أدد.
ومنها خطط سبإ، وهم بنو مالك بن زيد بن وليعة بن معبد بن سبإ.
ومها خطة بني وائل، وهو وائل بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام بن جذام بن عدي.
ومنها خطة القبض، وهم بنو القبض بن مرثد.
ومنها خطط الحمراوات، وهي ثلاث سميت بذلك لنزول الروم بها، وهم حمر الألوان: الأولى: الحمراء الدنيا، وبها خطة بلي، وهم بنو بلي بم عمرو بن إلحاف بن قضاعة إلا من كان منهم في أهل الراية، وخطة ثراد من الأزد، وخطة فهمٍ، وهم بنو فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، وخطة بني بحر بن سوادة من الأزد.
الثانية- الحمراء الوسطى، وبها خطة بني نبه، وهم قوم من الروم حضروا الفتح، وخطة هذيل، وهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وخطة بني سلامان من الأزد.
الثالثة- الحمراء القصوى: وهي خطة بني الأزرق من الروم وحضر الفتح منهم أربعمائة رجل، وخطة بني يشكر بن جزيلة من لخم، وإليهم ينسب جبل يشكر الذي بني عليه جامع أحمد بن طولون الآتي ذكره مع جوامع الفسطاط إن شاء الله تعالى.
ومنها خطط حضرموت، وهم بنو حضرموت بن عمرو بن قيس بن معاوية بن حمير إلى غير ذلك من الخطط التي درست قبل الاهتمام بالتأليف في الخطط.
واعلم أنه كان في خلال هذه الخطط دور جماعة كثيرة الصحابة رضوان الله عليهم ممن حضر الفتح.
منها دار عمرو بن العاص ودار الزبير بن العوام، ودار قيس بن سعد بن عباد الأنصاري، ودار مسلمة بن مخلد الأنصاري، ودار عبد الرحمن بن عديسٍ البلويّ، ودار وهب بن عمير بن وهب بن خلف الجمحي، ودار نافع بن عبد القيس بن لقيط الفهري، ودار سعد بن أبي وقّاصٍ، ودار عقبة بن عامر الجهنيّ، ودار القاسم وعمرو ابني قيس بن عمرو، ودار عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ العامريّ، ودار مسعود بن الأسود بن عبد شمس بن حرامٍ البلويّ، ودار المستورد بن شداد الفهريّ، ودار حييّ بن حرامٍ اللّيثيّ، وفي صحبته خلاف، ودار الحارث بن مالك الّليثيّ المعروف بابن البرصاء، ودار بشر بن أرطاة العامريّ، ودار أبي ثعلبة الخشني، ودار إياس بن البكير الليثيّ، ودار معمر بن عبد الله بن نضلة القرشيّ العدويّ، ودار أبي الدّرداء الأنصاريّ، ودار يعقوب القبطيّ رسول المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية: أم ولده إبراهيم وأختها شيرين، ودار مهاجرٍ مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ودار علبة بن زيد الأنصاريّ، ودار محمد بن مسلمة الأنصاريّ، ودار أبي الأسود مسروح بن سندر الخصيّ، ودار عبد الله بن عمر بن الخطاب، ودار خارجة بن حذافة بن غانم العدويّ، ودار عقبة بن الحارث، ودار عبد الله بن حذافة السهميّ، ودار محمية بن جزء الزّبيديّ، ودار المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ، ودار هبيب بن معقلٍ الغفاريّ، وبه يعرف وادي هبيبٍ بالقرب من الإسكندرية، ودار عبد الله بن السائب المخزوميّ، ودار جبر القبطيّ رسول المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودار يزيد بن زياد الأسلميّ، ودار عبد الله بن ريّان الأسلميّ، وفي صحبته خلاف، ودار أبي عميرة رشيد بن مالك المزنيّ، ودار سباع بن عرفطة الغفاريّ، ودار نضلة بن الحارث الغفاريّ، ودار الحارث بن أسد الخزاعيّ وفي صحبته خلاف، ودار عبد الله بن هشام بن زهرة من ولد تميم بن مرّة، ودار خارجة بن حذافة بن غانم العدويّ، وهو أوّل من ابتنى غرفة بالفسطاط، فكوتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمرها فكتب إلى عمرو بن العاص: أن ادخل غرفة خارجة وانصب فيها سريراً، وأقم عليه رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير، فإن اطّلع من كواها فاهدمها، ففعل عمرو فلم يبلغ الكوى فأقرّها، ودار محمد بن حاطب الجمحي، ودار رفاعة الدّوسيّ، ودار فضالة بن عبيد الأنصاريّ، ودار المطلب بن أبي وداعة السهميّ. إلى غير ذلك من الدور التي أغفلت ذكرها أصحاب الخطط.
قلت: وكان أمراء مصر القائمون مقام ملوكها الآن ينزلون بالفسطاط، ولم يكن لهم في ابتداء الأمر مقرّة معيّنة، ولا دارٌ للإمارة مخصوصة. فنزل عمرو بن العاص أوّل أمرائها بداره على القرب من الجامع، ولم يزل كلّ أمير بعده ينزل بالدار التي يكون بها سكنه إلى آخر الدولة الأمويّة، وكان عبد العزيز بن مروان، وهو أمير مصر في خلافة أخيه عبد الملك بن مروان قد بنى داراً عظيمة بالفسطاط سنة سبع وستين من الهجرة وسماها دار الذهب، وجعل لها قبّة مذهبة إذا طلعت عليها الشمس لا يستطيع الناظر التأمل فيها خوفاً على بصره، وكانت تعرف بالمدينة لسعتها وعظمها وكان عبد العزيز ينزلها، ثم نزلها بنوه بعده، فلما هرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة إلى مصر، نزل هذه الدار فلما رهقه القوم، أمر بإحراقها، فلامه في ذلك بعض بني عبد العزيز بن مروان فقال: إن أبق، أبنها لبنةً من ذهب ولبنةً من فضّة، والأ فما تصاب به في نفسك أعظم، ولا يتمتع بها عدوّك من بعدك.
فلما غلب بنو العباس على بني أمية وهرب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية إلى الديار المصرية، وتبعه علي بن صالح بن علي الهاشمي إلى أن أدركه بمصر وقتله واستقر أميراً على مصر في خلافة السفاح أول خلفاء بني العباس، ابتنى داراً للإمارة ونزلها، وصارت منزلةً للأمراء بعده إلى أن ولي أحمد بن طولون الديار المصرية فنزل بها في أول أمره، ثم اختط بعد ذلك قصره المعروف بالميدان فيما بين قلعة الجبل الآن والمشهد النفيسي وما يلي ذلك في سنة ست وخمسين ومائتين، وكان له عدة أبواب: بعضها عند المشهد النفيسي، وبعضها عند جامعه الآتي ذكره، واختط الناس حوله واقتطع كل أحد قطيعة ابتنى بها، فكان يقال: قطيعة هارون بن خمارويه، وقطيعة السودان، وقطيعة الفراشين، فعرف ذلك المكان بالقطائع، وتزايدت العمارة حتى اتصلت بالفسطاط، وصار الكل بلداً واحداً، ونزل أحمد بن طولون بقصره المذكور، وكذلك بنوه بعده، وأهملت دار الإمارة التي ابتناها علي بن صالح بالفسطاط، واستقر الأمر على ذلك بعده أيام ابنه خمارويه وولديه جيش وهارون، وزادت العمارة بالقطائع في أيامهما، وكثرت الناس فيها حتى قتل هارون بن خمارويه بعد قتل أبيه وأخيه، وسار محمد بن سليمان الكاتب بالعساكر من العراق من قبل المستكفي بالله، ووصل إلى مصر في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وقد ولى الطولونية عليهم ربيعة بن أحمد بن طولون، فتسلم البلد منه وخرب القطائع وهدم القصر وقلع أساسه، وخرب موضعه حتى لم يبق له أثر.
وكان بدر الخفيفي غلام أحمد بن طولون قد بنى داراً عظيمة بالفسطاط عند المصلى القديمة، وقيل اشتراها له أحمد بن طولون، ثم سخط عليه أحمد فنكبه، وسكنها بعده طاهر بن خمارويه ثم سكنها بعده الحمامي غلام أحمد بن طولون، فلما هدم محمد بن سليمان الكاتب قصر بني طولون بالقطائع، سكن هذه الدار، ثم سكنها عيسى النوشري أمير مصر بعده، واستقرت منزلةً للأمراء إلى أن ولي الإخشيد مصر فزاد فيها وعظمها، وعمل لها ميداناً وجعل له باباً من حديد، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة، ولم تزل منزلةً للأمراء إلى أن غلبت الخلفاء الفاطميون الإخشيدية على مصر وبني القائد جوهرٌ القاهرة والقصر فنقل باب هذه الدار إلى القاهرة، وصار القصر منزلة لهم على ما سيأتي ذكره في الكلام على خطط القاهرة إن شاء الله تعالى.
وصار الفسطاط في كل وقت تتزايد عمارته حتى صار في غاية العمارة ونهاية الحسن، به الآدر الأنيقة، والمساجد القائمة، والحمامات الباهية، والقياسر الزاهية، والمستنزهات الرائقة، ورحل الناس إليه من سائر الأقطار، وقصدوه من جميع الجهات، وغص بسكانه، وضاق فضاؤه الرحيب عن قطانه، حتى حكى صاحب إيقاظ المتغفل عن بعض سكان الفسطاط أنه دخل حماماًُ من بناء الروم في أيام خمارويه بن طولون في سنة سبع وثلثمائة فلم يجد فيها صانعاً يخدمه، وكان فيها سبعون صانعاً قل منهم من معه ثلاثة نفر يغسلهم، وأنه دخل بعدها حماماً ثم حماماً فلم يجد من يخدمه إلا في الحمام الرابعة، وكان الذي خدمه معه ثان.
وحكى في موضع آخر عمن يثق به عن أبيه أنه شاهد من مسجد الوكرة بالفسطاط إلى جامع ابن طولون قصبة سوق متصلة، فعد ما بها من مقاعد الحمص المصلوق، فكانت ثلثمائة وتسعين مقعداً غير الحوانيت وما بها.
وحكى أيضاً عمن أخبره أنه عد الأسطال النحاس المؤبدة في البكر لاستقاء الماء في الطاقات المطلة على النيل، فكانت ستة عشر ألف سطل.
قال: وبلغ أجرة مقعد يكرى عند البيمارستان الطولوني بالفسطاط في كل يوم اثني عشر درهماً.
وذكر ابن حوقلٍ أنه كان بالفسطاط في زمانه دار تعرف بدار ابن عبد العزيز بالموقف يصب لمن فيها من السكان في كل يوم أربعمائة راوية ماء، وفيها خمسة مساجد وحمامان وفرنان.
قلت: ولم يزل الفسطاط زاهي البنيان، باهي السكان إلى أن كانت دولة الفاطميين بالديار المصرية، وعمرت القاهرة على ما سيأتي ذكره فتقهقر حاله وتناقص، وأخذ الناس في الانتقال عنه إلى القاهرة وما حولها، فخلا من أكثر سكانه، وتتابع الخراب في بنيانه، إلى أنت غلب الفرنج على أطراف الديار المصرية في أيام العاضد، آخر خلفاء الفاطميين، ووزيره يومئذ شاور السعدي، فخاف على الفسطاط أن يملكه الفرنج ويتحصنوا به، فأضرم في مساكنه النار فأحرقها فتزايد الخراب فيه وكثر الخلق.
ولم يزل الأمر على ذلك تقهقر أمره إلى أن كانت دولة الظاهر بيبرس أحد ملوك الترك بالديار المصرية، فصرف الناس همتهم إلى هدم ما خلا من أخطاطه والبناء بنقصه بساحل النيل بالفسطاط والقاهرة، وتزايد الهدم فيه واستمر إلى الآن، حتى لم يبق من عمارته إلا ما بساحل النيل، وما جاوره إلى ما يلي الجامع العتيق وما دانى ذلك، ودثرت أكثر الخطط القديمة وعفا رسمها، واضمحل ما بقي منها وتغيرت معالمه.
وإذا نظرت إلى خطط الكندي والقضاعي والشريف النسابة، عرفت ما كان الفسطاط عليه من العمارة وما صار إليه الآن؛ وإنما أجرينا ذكر بعض الخطط المتقدمة، حفظاً لأسمائها وتنبيهاً على ما كانت عليه، إلا أن في ساحله المطل على النيل الآن وما جاور ذلك المباني الحسنة، والدور العظيمة، والقصور العالية، التي تبهج الناظر، وتسر الخاطر.
وكان أكثر بنيانه بالآجر المحكوك والجبس والجير من أوثق بناء وأمكنه، وآثاره الباقية تشهد له بذلك، وقد صار ما خرب منه ودثر كيماناً كالجبال العظيمة، وهجر غالبها وترك، وسكن في بعضها رعاع الناس ممن لا يعبأ به في جوانب منها لا تعد في العامر.
ومن كيمانه المشهور الذي ذكرها القضاعي: كوم الجارح، وكوم دينار، وكوم السمكة، وكوم الزينة، وكوم الترمس، وزاد صاحب إيقاظ المتغفل كوم بني وائل، وكوم ابن غراب، وكوم الشفاق، وكوم المشانيق.
ويقابل الفسطاط من الجهة البحرية جزيرة الصناعة المعروفة الآن بالروضة، كانت صناعة العمائر أولاً بها فنسبت إليها.
قال الكندي: وكان بناؤها في سنة أربع وخمسين ثم غلب عليها اسم الروضة لحسنها ونضارتها وإطافة الماء بها، وما بها من البساتين والقصور، وهي جزيرة قديمة كانت موجودة في زمن الروم. وكان بها حصن عليه سور وأبراج، وبين الفسطاط وبينها جسر ممتد من المراكب على وجه النيل كما في جسر بغداد على الدجلة ولم يزل قائماً إلى أن قدم المأمون مصر فأحدث عليه جسراً من خشب تمر عليه المارة وترجع، وبعد خروج المأمون من مصر هبت ريح عاصفة في الليل فقطعت الجسر القديم، وصدمت بسفنه الجسر المحدث فذهبا جميعاً، ثم أعيد الجسر المحدث وبطل القديم.
وقد ذكر القضاعي: أنه كان موجوداً إلى زمنه وكان في الدولة الفاطمية، ثم جدد الحصن المذكور أحمد بن طولون أمير مصر في خلافة المعتمد في سنة ثلاث ومائتين، ثم استهدم بعد ذلك بتأثير النيل في أبراجه ومرور الزمان عليه، ثم بنى الصالح نجم الدين أيوب قلعةً مكانه في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وبقيت حتى هدمها المعز أيبك التركماني أول ملوك الترك. وعمر من نقضها مدرسته المعزية برحبة الخروب، واتخذ الناس مكانها أملاكاً، وهي على ذلك إلى زماننا، ولم يبق بها إلا بعض أبراج اتخذها الناس أملاكاً وعمروا عليها بيوتاً. فلما ملك الظاهر بيبرس، هم بإعادتها فلم يتفق له ذلك وبقيت على حالها.
قلت: وكانت أرفة النيل التي بين جزيرة الصناعة وبين الفسطاط هي أقوى الفرقتين والتي بين الجزيرة والجيزة هي الضعيفة، ثم انعكس الأمر إلى أن صار ما بين الجزيرة والفسطاط يجف ولا يعلوه الماء إلا في زيادة النيل، ويبدو بين آخر الفسطاط وهذه الجزيرة على فوهة خليج القاهرة. ويوجد في أول الخليج حيث السد الذي يفتح عند وفاء النيل مكان كالجزيرة؛ يعرف بمنشأ المهراني كان كوماً يحرق فيه الآجر يعرف بالكوم الأحمر، عدة القضاعي في جملة كيمان الفسطاط.
قال صاحب إيقاظ المتغفل: وأول من ابتدأ فيه العمارة بلبان المهراني في الدولة الظاهرية بيبرس فنسبت المنشأ إليه.
ويلي الفسطاط من غريبه بركة تعرف ببركة الحبش، وهي أرض مزدرعة، قال القضاعي: كانت تعرف ببركة المعافر وحمير، وكان في شرقيها جنات تعرف بالحبش فنسبت إليها. وذكر ابن يونس في تاريخه: أن تلك الجنات تعرف بقتادة بن قيس بن حبشي الصدفي، وهو ممن شهد فتح مصر.
قلت: وهي الآن موقوفة على الأشراف من ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقفها عليهم الصالح طلائع بن زريك وزير الفائز والعاضد من الخلفاء الفاطميين.
ويليه من قبليه حيث القرافة المكان المعروف بالخندق، كان قد احتفره عبد الرحمن بن عيينة خندقاً في سنة خمس وستين من الهجرة عند مسير مروان بن الحكم إلى مصر، فعرف بذلك.
وأما جوامعه فستة:
الأول الجامع العتيق المعروف بجامع عمرو:
وذلك أن عمراً لما بنى داره الصغرى مكان فسطاطه على ما تقدم ذكره، اختط الجامع المذكور في خطة أهل الراية المتقدمة الذكر.
قال القضاعي: وكان جناناً فيما ذكر الليث بن سعد. قال: وكان الذي حاز موضعه قيسبة بن كلثومٍ التجيبي أحد بني سوم، فنزله في حصار الحصن المعروف بقصر الشمع، فلما رجع عمرو من الإسكندرية، سأل قيسبة فيه ليجعله مسجداً فسلمه إليه، وقال: تصدقت به على المسلمين، واختط له خطة مع قومه من بني سومٍ في تجيب؛ فبني في سنة إحدى وعشرين، وكان طوله خمسين ذراعاً في عرض ثلاثين ذراعاً، ويقال إنه وقف على قبلته ثمانون رجلاً من الصحابة رضوان الله عليهم: منهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وأبو بصرة الغفاري وغيرهم؛ ولم يكن له يومئذ محراب مجوفٌ بل عمد قائمه بصدر الجدار، وكان له بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحرية، وبابان في غربيه، وطوله من قبليه إلى بحريه مثل طول دار عمرو، وبينه وبين دار عمرو سبعة أذرع. ولما فرغ من بنائه، اتخذ عمرو بن العاص له منبراً يخطب عليه، فكتب إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزم عليه في كسره، ويقول: أما يكفيك أن تقوم قائماً والمسلمون جلوس تحت عقبيك؟ فكسره. ويقال: إنه أعاده إليه بعد وفاة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
وقيل إن زكريا بن مرقيا ملك النوبة أهدى لعبد الله بن أبي سرح العامري في إمارته على مصر منبراً فجعله في الجامع؛ ثم زاد فيه مسلمة بن مخلدٍ الأنصاري في سنة ثلاث وخمسين من الهجرة، وهو يومئذ أمير مصر من قبل معاوية بن أبي سفيان زيادةً من بحريه، وزخرفه؛ وهو أول من صلى على الموتى داخل الجامع، وتوالت فيه الزيادات والتجديدان إلى زماننا. وأول من رتب فيه قراءة المصحف عبد العزيز بن مروان في إمارته في سنة ست وسبعين، ورفع عبد الله بن عبد الملك سقفه فس سنة تسع وثمانين بعد أن كان مطأطأ، ثم جعل فيه المحراب المجوف قرة بن شريك العبسي اتباعاً لعمر بن عبد العزيز في محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأحدث فيه المقصورة تبعاً لمعاوية حيث فعل ذلك بالشام.
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمر موسى بن نصير اللخمي وهو أمير مصر باتخاذ المنابر في جميع جوامع قرى مصر. وأول من نصب اللوح الأخضر فيه عبد الله بن طاهر، وهو أمير مصر في سنة اثنتي عشرة ومائتين؛ ثم احترق الرواق الذي فيه اللوح الأخضر في ولاية خمارويه بن أحمد بن طولون، فعمره خمارويه في سنة خمس وسبعين ومائتين. ثم جدد اللوح الظاهر بيبرس في سنة ست وستين وستمائة. ثم جدد اللوح الأخضر برهان الدين المحلي التاجر في سلطنة الظاهر برقوق في أواخرها.
وقد وصف صاحب إيقاظ المتغفل الجامع على ما كان في زمانه في حدود ثلاث عشرة وسبعمائة فقال: إن ذرعه ثمانية وعشرون ألفاً بذراع العمل، مقدمه ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة ذراع وخمسون ذراعاً، ومؤخره ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة وخمسون ذراعاً، وصحنه خمسة آلاف ذراع، جانبه الشرقي ألفا ذراع وخمسمائة ذراع وخمسون ذراعاً، وجانبه الغربي كذلك؛ وأبوابه ثلاثة عشر باباً لكل باب منها اسم يخصه في جانبه القبلي باب واحد، وبه أربعة وعشرون رواقاً، سبعة في مقدمه، وسبعة في مؤخّره، وخمسة في شرقيه، وخمسة في غربيّه؛ وفيه ثلثمائة عمود وثمانية وستون عموداً، بعضها منفرد وبعضها مضاف مع غيره؛ وبصدره ثلاثة محاريب: المحراب الكبير المجاور للمنبر، والمحراب الأوسط، ومحراب الخمس؛ وفيه خمس صوامع: إحداها في ركنه القبليّ مما يلي الغربي، وهي الغرفة، والثانية في ركنه القبلي مما يلي الشرقيّ، وهي المنارة الكبرى، والثالثة في ركنه البحريّ مما يلي الشرقيّ، وتعرف بالجديدة؛ والرابعة فيما بين هذه المنارة والمنارة الآتي ذكرها، وتعرف بالسعيدة؛ والخامسة في الركن البحريّ مما يلي الغربي مقابل باب السطح، وتعرف بالمستجدّة.
وهو على هذه الضفة إلى الآن لكنه قد استهدم رواق اللوح الأخضر والرواقات التي داخله، فأمر السلطان الملك الظاهر ببنيانها، فعلقت جدره على الخشب، فاخترمته المنية قبل الشروع في البناء، وأخذ القاضي برهان الدين المحلّي تاجر الخاص في عمارة ذلك، فهدم رواق اللوح الأخضر وما داخله، وجدّد اللوح الذي كان قد نصبه الظاهر بيبرس، وعمر الرواقات المستهدمة أنفس عمارة وأحسنها.
قلت: ومما يجب التنبيه عليه أنه قد تقدّم أنه وقف على إقامة محراب هذا الجامع ثمانون رجلاً من الصحابة، وحينئذ فيلحق بمحاريب البصرة والكوفة على الوجه الصائر إليه بعض أصحابنا الشافعية في أنه لا يجتهد في التيامن والتياسر في محاريبهما كما نبه عليه الشيخ تقيّ الدين السبكي في شرح منهاج النوويّ في الفقه، لكن قد ذكر القضاعي في خططه عن الليث بن سعد وابن لهيعة أنهما كانا يتيامنان في صلاتهما فيه، وأن محرابه كان مشرقاً جدّاً، وأن قرّة بن شريك حين هدمه وبناه، تيامن به قليلاً.
وقد حكى الشيخ تقيّ الدين السبكي في شرح المنهاج أيضاً عن بعض علماء الميقات: أنه أخبره أن فيه الآن انحرافاً قليلاً. قال: ولعله من تغيير البناء، وقد سألت بعض علماء هذا الشأن عن ذلك، فأخبرني عن الشيخ تقيّ الدين أبي الطاهر رأس علماء الميقات في زماننا أنه كان يقول: من الدلالة على صحة عملنا في استخراج القبلة موافقته لمحراب الجامع العتيق.
الثاني الجامع الطّولوني:
بناه أحمد بن طولون في سنة تسع وخمسين ومائتين على الجبل المعروف بجبل يشكر.
قال القضاعيّ: وينسب إلى يشكر بن جزيلة من لخم، كان خطّة لهم.
قال ابن عبد الظاهر: وهو جبل مبارك معروف بإجابة الدعاء فيه.
قال: ويقال: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام عليه. ويقال: إن ابن طولون أنفق على هذا الجامع مائة ألف دينار وعشرين ألفاً من كنزٍ وجده. ويقال: إنه لما فرغ من بنائه أمر بتسمع ما يقوله الناس فيه من العيوب، فسمع رجل يقول: محرابه صغير، وآخر يقول: ليس فيه عمود، وآخر يقول: ليس فيه ميضأة، فقال: أما المحراب، فإني رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد خطه لي، فأصبحت فرأيت النّمل قد أطافت بالمكان الذي خطه لي. وأما العمد، فإني بنيته من مال حلال، وهو الكنز الذي وجدته فما كنت لأشوبه بغيره، والعمد لا تكون إلا من مسجد أو كنيسة فنزهته عن ذلك. وأما الميضأة، فأردت تطهيره من النجاسات، وها أنا أبنيها خلفه، ثم أمر ببنائها على القرب.
ويحكى أنه كان لا يعبث بشيء قط، وأنه أخذ يوماً درج ورق أبيض وأخرجه ومده كالحلزون، ثم استيقظ لنفسه وظن أنه فطن له، فأمر بعمارة المنارة على تلك الهيئة، وعلى نظير العشاري الذي على رأسها عمل العشاري على رأس قبة الأمام الشافعي رضي الله عنه. ولما فرغ من بناء الجامع رأى في منامه كأن ناراً نزلت من السماء فأحرقت الجامع دون ما حوله فقصّ رؤياه على عابر فقال له: بشراك قبوله، فإن الأمم الخالية كانوا إذا قرّبوا قرباناً فتقبّل، نزلت نار من السماء فأكلته، كما في قصة هابيل وقابيل؛ ورأى مرةً أخرى كأن الحق سبحانه وتعالى تجلّى على ما حول الجامع فعبره له عابر بأنه يخرب ما حول الجامع ويبقى هو، بدليل قوله تعالى: {فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً} وكان الأمر كذلك، فهدمت منازل بني طولون في نكبتهم ولم يبق منها إلا الجامع.
الثالث جامع راشدة:
بناه الحاكم بأمر الله الفاطميّ جنوبيّ الفسطاط، على القرب من الرصد، وأدخله في وقفه مع الجامع الأزهر وجامع المقس.
قال في إيقاظ المتغفل: ليس هو بجامع راشدة حقيقة، وإنما جامع راشدة كان بالقرب منه، وهو جامع قديم بنته قبيلة يقال لها راشدة عند الفتح الإسلامي، فلما بنى الحاكم هذا سمي باسمه. قال: وقد أدركت بعضه ومحرابه، وكان فيه شجر كثير من شجر المقل.
الرابع جامع الرصد:
بناه الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار الصالحيّ النجميّ في شهور سنة ثلاث وستين وستمائة، عمر منظرته المعروفة به هناك، وعمر رباطاً بجانبه قرّر فيه عدداً تنعقد به الجمعة مقيمين فيه ليلاً ونهاراً.
الخامس جامع الشعيبية بظاهر مصر أيضاً:
بناه الأمير عز الدين الأفرم المذكور في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وسكنه الشيخ شمس الدين بن اللبان الفقيه الشافعيّ الصوفيّ فعرف به الآن.
السادس الجامع الجديد:
بناه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالقرب من موردة الحلفاء، وبدأ بعمارته في التاسع من المحرّم في سنة إحدى عشر وسبعمائة، وانتهت عمارته في ثامن صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وخطب به قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي، وصلّى فيه الجمعة في التاسع من الشهر المذكور، ورتب فيه صوفية يحضرونه بعد العصر كما في الخوانق، وهو من أحسن الجوامع وأنزهها بقعة خصوصاً في أيام زيادة النيل.
وأما مساجد الخمس- فكانت على العدد الذي لا يحصى لكثرتها، وخطط القضاعي شاهدة بذلك.
وقد رأيت في بعض التواريخ أن الفناء وقع في أيام كافور الأخشيدي حتى لم يجدوا من يقبل الزكاة، فأتوا بها إلى كافور فلم يقبلها، وقال: ابنوا بها المساجد واتخذوا لها الأوقاف، فكان ذلك سبب زيادة الكثرة فيها، ولكنها الآن قد خربت بخراب الفسطاط ودثرت ولم يبق إلا آثار القليل منها.
وأما المدارس- فكان المتقدّمون يجلسون للعلم بالجامع العتيق؛ وأول من أحدث المدارس بالفسطاط بنو أيوب، فعمر السلطان صلاح الدين رحمه الله مدرستين: إحداهما- مدرسة المالكية، المعروفة بالقمحية في المحرم سنة ست وستين وخمسمائة، وسميت بالقمحية لأن معلومها يصرف للمدرسين والطلبة قحماً.
قال العماد الكاتب: وكانت قبل ذلك سوقاً يباع فيه الغزل.
والثانية- المدرسة المعروفة بابن زين التجار، وكانت سجناً يسجن فيه فبناها السلطان صلاح الدين مدرسة ووقفها على الشافعية، ووقف عليها الصاغة المجاورة لها ثم عمر الملك المظفر تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب بالمكان المعروف بمنازل العز بالقرب من باب القنطرة قبلي الفسطاط مدرسةً ووقف عليها أوقافاً من جملتها جزيرة الصّناعة المعروفة بالرّوضة.
ثم بنى السلطان الملك المعزّ أيبك التركماني أول ملوك الترك مدرسته المعزية برحبة الخرّوب في شهور سنة أربع وخمسين وستمائة.
وعمر الصاحب شرف الدين بن الفائزي مدرسته الفائزية قبل وزارته في شهور سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وعمر الصاحب بهاء الدين بن حنّا المدرسة الصاخبية بزقاق القناديل بعد ذلك.
وأما الخوانق والرّبط- فلم تعهد بالفسطاط، غير أن الصاحب بهاد الدين ابن حنّا عمر رباط الأثار الشريفة النبوية بظاهر قبليّ الفسطاط واشترى الأثار الشريفة وهي ميلٌ من نحاس، وملقطٌ من حديد، وقطعة من العنزة، وقطعة من القصعة بجملة مال وأثبتها باللاستفاضة وجعلها بهذا الرباط للزيارة.
وأما البيمارستان- فأول من أنشأه بالفسطاط أحمد بن طولون في سنة تسع وخمسين ومائتين وأنفق عليه ستين ألف دينار.
قال القضاعيّ: ولم يكن قبله بيمارستان بمصر، وشرط إلا يعالج فيه جنديٌّ ولا مملوك.
القاعدة الثانية القاهرة:
بألف ولام لازمين في أولها وقاف مفتوحة بعدها ألف ثم هاء مكسورة وراء مهملة مفتوحة ثم هاء في الآخر ويقال فيها القاهرة المعزية نسبة إلى المعز الفاطمي الذي بنيت له، وربما قيل المعزية القاهرة، سميت بذلك تفاؤلاً، وهي المدينة العظمى التي ليس بها نظير في الآفاق، ولا يسمع بمثلها في مصر من الأمصار.
بناها القائد جوهر المعزي لمولاه المعز لدين الله بن أبي تميم معد بن المنصور أبي الطاهر إسماعيل بن القائم أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله الفاطمي في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، عند وصوله إلى الديار المصرية من المغرب، واستيلائه عليها، وموقعها شمالي الفسطاط المتقدم ذكره على القرب منه.
قال في الروض المعطار: وبينهما ثلاثة أميال، وكأنه يريد ما كان عليه الحال في ابتداء عمارة القاهرة وهو ما بين سور الفسطاط وسور القاهرة.
أما الآن فقد انتشرت الأبنية واتصلت العمارة حتى كادت المدينتان تتصلان أو اتصلتا.
قال القاضي محي الدين بن عبد الله الظاهر في خطط القاهرة: والذي استقر عليه الحال أن حد القاهرة من السبع سقايات إلى مشهد السيدة رقية عرضاً، وكان قبل ذلك من المجنونة.
قال ابن سعيد: وكان مكانها قبل العمارة بستاناً لبني طولون على القرب من منازلهم المعروفة بالقاطائع. وكيفما كانت؛ فطولها وعرضها في معنى طول الفسطاط وعرضه أو أكثر عرضاً بقليل، وكان ابتداء عمارتها أن أمر إفريقية وغيرها من بلاد المغرب كان قد أفضى إلى المعز المذكور، وقوي طمعه في مصر بعد موت كافور الإخشيدي وهو يومئذ والشام والحجاز بيد أحمد بن علي بن الإخشيد أستاذ كافور وهو صبي لم يبلغ الحلم، والمتكلم في المملكة أهل دولته، والحسين بن عبد الله في الشام كالنائب أو الشريك له، يدعى له بعده على المنابر.
وكانت مصر قد ضعف عسكرها لما دهمها من الغلاء والوباء، فجهز المعز قائده جوهر، المتقدم ذكره، فبرز جوهر إلى مدينة رقادة من بلاد إفريقية في أكثر من مائة ألف وما يزيد على ألف صندوق من المال، وخرج المعز لتشييعه، فقال للمشايخ الذين معه: والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، وليدخلنها بالآردية من غير حرب، ولينزلن في خرابات ابن طولون، ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا وكان للمعز غلام ببرقة اسمه أفلح، فكتب إليه المعز أن يترجل لجوهر إذا عبر عليه ويقبل يديه، فبذل مائة ألف دينار على أن يعفى من ذلك، فأبى المعز إلا ذلك، فترجل من مكانه وقبل يديه، وسار جوهر حتى دخل مصر وتسلمها لسبع عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ونزل في مناخه من سفره موضع القاهرة الآن ليلاً، واختط القصر في بنائه وعمارة القاهرة، واختط الناس حوله.
فأما القصر- فإنه اختطه في الليلة التي أناخ فيها قبل أن يصبح، فلما أصبح رأى فيه ازورارات غير معتدلة فلم يعجبه، ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة وساعة سعيدة، فتركه على حاله وتمادى في بنيانه حتى أكمله.
ومكانه الآن المدرسة الصالحية بين القصرين إلى رحبة الأيدمري طولاً، ومن السبع خوخ إلى رحبة باب العيد عرضاً، والحد الجامع لذلك أن تجعل باب المدرسة الصالحية على يسارك وتمضي إلى السبع خوخ، ثم إلى مشهد الحسين، ثم إلى رحبة الأيدمري، ثم إلى الركن المخلق، ثم إلى بين القصرين حتى تأتي إلى باب المدرسة الصالحية من حيث ابتدأت؛ فما كان على يسارك في جميع دورتك فهو موضع القصر.
وكان له تسعة أبواب بعضها أصلي وبعضها مستحدث: أحدها- باب الذهب، ويقال إنه كان مكان المدرسة الظاهرية الآن.
الثاني- باب البحر، ويقال إن مكانه باب قصر بشتاك. قال ابن عبد الظاهر وهو من بناء الحاكم.
الثالث- باب الزهومة، ومكانه قاعدة شيخ الحنابلة بالمدرسة الصالحية، وكانت الصاغة مطبخاً للقصر، وكانوا يدخلون بالطعام إلى القصر من ذلك الباب فسمي باب الزهومة لذلك، والزهومة: الذفر.
الرابع- باب التربة؛ ويقال إن مكانه ببن باب الزهومة المتقدم الذكر ومشهد الحسين.
الخامس- باب الديلم، وهو باب مشهد الحسين.
السادس- باب قصر الشوك، ومكانه الموضع المعروف بقصر الشوك على القرب من رحبة الأيدمري.
السابع- باب العيد، وهو باب البيمارستان العتيق، سمي بذلك لأن الخليفة كان يخرج منه لصلاة العيد، وإليه تنسب رحبة باب العيد.
الثامن- باب الزمرد، وهو إلى جانب باب العيد المتقدم ذكره.
التاسع- باب الريح، وقد ذكر ابن الطوير أنه كان في ركن القصر الذي يقابل سور دار سعيد السعداء التي هي الخانقاه الآن.
ثم استجد المأمون بن البطائحي وزير الآمر تحت القوس الذي بين باب الذهب وباب البحر ثلاث مناظر، وسمي إحداها الزاهرة، والثانية الفاخرة، والثالثة الناضرة وكان الآمر يجلس فيها لعرض العساكر في عيد الغدير، والوزير واقفٌ في قوس باب الذهب، وكان مكان السيوفيين الآن سلسلةٌ ممتدة إلى ما يقابلها تعلق في كل يوم من وقت الظهر حتى لا يجوز تحت القصر راكب، ولذلك يعرف هذا المكان بدرب السلسلة.
ومما هو داخل في حدود القصر مشهد الحسين.
وسبب بنائه إن رأس الإمام الحسين عليه السلام كانت بعسقلان، فخشي الصالح طلائع بن رزيك عليها من الفرنج فبنى جامعه خارج باب زويلة، وقصد نقل الرأس إليه فغلبه الفائز على ذلك، وأمر بابتناء هذا المشهد، ونقل الرأس إليه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
ومن غريب ما اتفق من بركة هذا الرأس الشريفة ما حكاه القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حين استولى على هذا القصر بعد موت العاضد، آخر خلفاء الفاطميين بمصر، قبض على خادم من خدام القصر وحلق رأسه وشد عليها طاساً داخله خنافس فلم يتأثر بها، فسأله السلطان صلاح الدين عن ذلك وما السر فيه، فأخبر أنه حين أحضرت الرأس الشريفة إلى المشهد حملها على رأسه، فخلى عنه السلطان وأحسن إليه.
وكان بجوار القصر قصر صغير يعرف بالقصر النافعي من جهة السبع خوخ فيه عجائز الفاطميين.
قلت: ولم يزل هذا القصر منزلة الخلفاء الفاطميين من لدن المعز أول خلفاهم بمصر وإلى آخر أيام العاضد آخر خلفائهم، وكان الوزراء ينزلون بدار الوزراة التي ابتناها أمير الجيوش بدر الجمالي داخل باب النصر مكان الخانقاه الركنية بيبرس الآن. فلما ولي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزراة عن العاضد بعد عمه أسد الدين شيركوه، نزل بدار الوزارة المذكورة، وبقي بها حتى مات العاضد فتحول إلى القصر وسكنه؛ ثم سكنه بعد أخوه العادل أبو بكر. فلما ملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر انتقل منه إلى قلعة الجبل على ما سيأتي ذكره في الكلام على القلعة إن شاء الله تعالى. وصارت دار الوزارة المتقدمة الذكر منزلاً للرسل الواردين من الممالك إلى أن عمر مكانها السلطان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير الخانقاه المعروفة به، وخلا القصر من حينئذ من ساكنيه، وأهمل أمره فخرب.
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: قال لي بوابٌ لباب الزهومة اسمه مرهف في سنة ثلاثين وستمائة: كان لي على هذا الباب المدة الطويلة ما راأته دخل فيه حطب ولا رمي منه تراب. قال: وهذا أحد أسباب خرابه لوقود أخشابه وتكويم ترابه؛ ثم أخذ الناس بعد ذلك في تملكه واستحكاره، وعمرت فيه المدارس والآدر، فبنى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فيه مدرسته الصالحية، ثم بنى الظاهر بيبرس في مدرسته الظاهرية، وبنى فيه بشتاك أحد أمراء الدولة الناصرية محمد بن قلاوون فيه قصره المعروف به، وجعلت دار الضرب في وسطه، ولم يبق من آثاره إلا البيمارستان العتيق، فإنه كان قاعة بناها العزيز بالله بن المعز الفاطمي على ما سيأتي ذكره.
وكذلك القبة التي على رأس السالك من هذا البيمارستان إلى رحبة باب العيد، وبعض جدرٍ لا يعتد بها قد دخلت في جملة الأملاك.
وأما أبواب القاهرة وأسوارها- فإن القائد جوهراً حين اختطها جعل لها أربعة أبواب: بابين متقاربين، وبابين متباعدين. فالمتقاربان باب زويلة نسبة إلى زويلة: قبيلة من قبائل البربر الواصلين مع جوهر من المغرب، ولذلك يقع في عبارة الموثقين وغيرهم بابا زويلة، وأحد هذين البابين القوس الموجود الآن المجاور للمسجد المعروف بسام بن نوح عليه السلام. والثاني كان موضع الحوانيت التي باع فيها الجبن على يسرة القوس المتقدم ذكره يدخل منه إلى المحمودية. وكان سبب إبطاله وسده أن المعز الذي بنيت له القاهرة لما دخلها عند وصوله من المغرب، دخل من القوس الموجود الآن هناك فازدحم الناس فيه وتجنبوا الدخول من الباب الآخر، واشتهر بين الناس أن من دخل منه لم تقض له حاجة، فرفض وسد وجعل زقاق جنوبيه يتوصل منه إلى المحمودية، وزقاق شماليه يتوصل منه إلى الأنماطيين وما يليها.
والبابان المتباعدان هما القوس الذي داخل باب الفتوح خارج حارة بهاء الدين وقوس آخر كان على حياله داخل باب النصر بالقرب من وكالة قيسون الآن فهدم ثم ابتنى أمير الجيوش بدر الجمالي المتقدم ذكره في سنة ثمانين وأربعمائة سوراً من لبنٍ دائراً على القاهرة، وبعضه باق إلى زماننا بخط سوق الغنم داخل باب المحروق، ثم ابتنى الأفضل بن أمير الجيوش باب زويلة، وباب النصر، وباب الفتوح الموجودين الآن فيما ذكره القاضي محي الدين بن عبد الله الظاهر في خططه، إلا أنه ذكر في مواضع أخر منها أن باب زويلة بناه العزيز بالله وأكمله بدر الجمالي، وهو من أعظم الأبواب وأشمخها، وليس له باشورة على الأبواب، وفيه يقول علي بن محمد النيلي:
يا صاح لو أبصرت باب زويلةٍ ** لعلمت قدر مجله بنيانا

باب تأزر بالمجرة وارتدى الشع ** رى ولاث برأسه كيوانا

لو أن فرعوناً رآه لم يرد ** صرحاً ولا أوصى به هامانا

قال ابن عبد الظاهر: وباب سعادة ربما ينسب إلى سعادة بن حيان غلام المعز، وكان قد ورد من عنده في جيش إلى جوهر وولي الرملة بعد ذلك.
قال: وباب القنطرة منسوبٌ إلى القنطرة التي أمامه، وهي من بناء القائد جوهر بناها عند خوفه من القرامطة ليجوز عليها إلى المقس. والقوس الذي بالشارع الأعظم خارج باب زويلة على رأس المنجبية عند الطيوريين الآن كان باباً بناه الحاكم بأمر الله خارج القاهرة، وكان يعرف بالباب الجديد.
وباب الخوخة الذي على القرب من قنطرة الموسكي أظنه من بناء الفاطميين أيضاً. ولما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الديار المصرية انتدب لعمارة أسوار القاهرة ومصر في سنة تسع وستين وخمسمائة الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي الرومي على كثرة من أسرى الفرنج عندهم يومئذ، بنى سوراً دائراً عليها وعلى قلعة الجبل والفسطاط، ولم يزل البناء به حتى توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله وهو الموجود الآن؛ وجعل فيها عدة أبواب: منها: باب البحر، وباب الشعرية، وباب البرقية، وباب المحروق، وابتنى برجين عظيمين أحدهما بالمقس على القرب من جامع باب البحر، وهو الذي هدمه الصاحب شمس الدين المقسي وزير الأشرف بن شعبان بن حسين على رأس السبعين والسبعمائة، وأدخله في حقوق الجامع المذكور حين جدد بناءه؛ والثاني بباب القنطرة جنوبي الفسطاط.
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: وقياس هذا السور من أوله إلى آخره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلثمائة وذراعان بالهاشمي، من ذلك من باب البحرح إلى البرج بالكوم الأحمر، يعني رأس منشأة المهراني المتقدم ذكرها في الكلام على خطط الفسطاط عند فوهة خليج القاهرة عشرة آلاف ذراع؛ ومن الكوم الأحمر المذكور إلى قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع؛ ومن مسجد سعد الدولة المذكور إلى باب البحر ثمانية آلاف ذراع وثلثمائة واثنان وتسعون ذراعاً، ودائرة القلعة ثلاثة آلاف ذراع ومائة وعشرة أذرع.
واقتصر السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه على ذرع السور من غير تفصيل ولم يتعرض للذراعين الزائدين.
قلت: وهذا السور قد دثره أكثر، وتغيرت معالم غالبه، للصوق عمائر الأملاك به حتى إنه لا يتميز في غالب الأماكن من الأملاك، وسقط ما بين باب البحر إلى الكوم الأحمر حتى لم يبق له أثر. على أن ما هو داخل سور القاهرة الأول من الأماكن أرضه سبخة وماؤه زعاق.
قال ابن عبد الظاهر: ولذلك عتب المعز عند وصوله إلى الديار المصرية ودخوله القاهرة على جوهر لكونه لم يعمرها مكان المقس على القرب من باب البحر أو جنوبي الفسطاط على القرب من الرصد لتكون قريبة من النيل، عذبة مياه الآبار.
واعلم أن خطط القاهرة قد اتسعت وزادت العمارة حولها، وصار ما هو خارج سورها أضعاف ما هو داخله. ثم منها ما هو منسوب إلى دولة الفاطميين ومنها ما هو منسوب إلى من تقدمهم من الملوك، إما لدروس اسمه الأول وغلبة اسمه الثاني عليه، وإما لاستحداثه بعد أن لم يكن؛ ومنها ما هو مجهول لانقطاع شهرته بطول الأيام ومرور الليالي. وإنما يقع التعرض هنا للأماكن الشهرة، الدائرة على الألسنة دون غيرها؛ وأنا أذكرها على ترتيب الأماكن لا على ترتيب القدم والحدوث.
أما خططها المشهورة داخل السور:
فمنها حارة بهاء الدين داخل باب الفتوح، وتعرف بالطواشي بهاء الدين قراقوش باني سور القاهرة المتقدم ذكره وكانت في دولة الفاطميين تعرف بين الحارتين؛ ثم اختطها قوم في الدولة الفاطمية يعرفون بالريحانية والعزيزية فعرفت بهم. فلما سكنها بهاء الدين قراقوش المذكور، اشتهرت به ونسي ما قبل ذلك.
ومنها حارة برجوان وتعرف ببرجوان الخادم، كان خادم القصور في أيام العزيز بالله بن المعز ثاني خلفاء الفاطميين بمصر، ووصاه على ابنه الحاكم فعظم شأنه، ثم قتله الحاكم بعد ذلك. ويقال إنه خلف في تركته ألف سراويل بألف تكة حرير.
وبهذه الحارة كانت دار المظفر ابن أمير الجيوش بدر الجمالي.
ومنها خط الكافوري كان بستاناً لكافور الإخشيدي، وبنيت القاهرة وهو بستان، وبقي إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة، فاختطه طائفة البحرية والعزيزية إصطبلات، وأزيلت أشجاره وبقيت نسبته إلى كافور على ما كنت عليه.
ومنها خط الخرنشف كان ميداناً للخلفاء الفاطميين، وكان لهم سرداب تحت الأرض إليه من باب القصر يمرون فيه إلى الميدان المذكور راكبين، ثم جعل مصرفاً للماء لما بنيت المدرسة الصالحية، ثم بنى به الغز بعد الستمائة إصطبلات بالخرنشف وسكنوها فسمي بذلك.
ومنها درب شمس الدولة على القرب من باب الزهومة، وكان في الدولة الفاطمية يعرف بحارة الأمراء، وبها كانت دار الوزير عباس وزير الظافر، وبها المدرسة المسرورية بناها مسرور الخادم، وكان أحد خدام القصر في الدولة الفاطمية وبقي إلى الدولة الأيوبية، واختص بالسلطان صلاح الدين وتقدم عنده، ثم سكنها شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف، وعمر بها درباُ فعرف به ونسب إليه.
ومنها حارة زويلة وتنسب إلى زويلة: قبيلة من البربر الواصلين صحبة القائد جوهر على ما تقدم ذكره في الكلام على باب زويلة، وهي حارة عظيمة متشعبة.
ومنها الجودرية وتعرف بطائفة يقال لها الجودرية من الدولة الفاطمية نسبة إلى جودر خادم عبيد الله المهدي أبي الخلفاء الفاطميين، اختطوها وسكونها حين بنى جوهرٌ القاهرة، ثم سكنها اليهود بعد ذلك إلى أن بلغ الحاكم الفاطمي أنهم يهزأون بالمسلمين ويقعون في حق الإسلام، فسد عليهم أبوابهم وأحرقهم ليلاً، وسكنوا بعد ذلك حارة زويلة المتقدمة الذكر.
ومنها الوزيرية وتعرف بالوزير أبي الفرج يعقوب بن كلس وزير المعز بالله الفاطمي، وكان يهودي الأصل يخدم في الدولة الإخشيدية، ثم هرب إلى المعز الفاطمي بالمغرب لمال لزمه، فلقي عسكر المعز مع جوهر فرجع معه، وعظمت مكانته عند المعز حتى استوزره، وكانت داره مكان مدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر، وزير العادل أبي بكر بن أيوب، المعروفة بالصاحبية بسويقة الصاحب، وكانت قبل ذلك تعرف بدار الديباج.
ومنها المحمودية قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: وللعلها منسوبة إلى الطائفة المعروفة بالمحمودية القادمة في أيام العزيز بالله الفاطمي إلى مصر.
ومنها حارة الروم داخل بابي زويلة اختطها الروم الواصلون صحبة جوهر القائد حين بنائه القاهرة فعرفت بهم ونسبت إليهم إلى الآن.
ومنها الباطلية قال ابن عبد الظاهر: تعرف بقوم أتوا المعز باني القاهرة وقد قسم العطاء في الناس فلم يعطهم شيئاً، فقالوا: نحن على باطل؟ فسميت الباطلية.
ومنها حارة الديلم وتعرف بالديلم الواصلين صحبة أفتكين المعزي وغلام المعز بن بويه الديلمي، وكان قد تغلب على الشام أيام المعز الفاطمي وقاتل القائده جوهراً واستنصر بالقرامطة، وخرج إليهم العزيز بالله فأسره في الرملة وقدم به إلى القاهرة فأجزل له العطاء، وأنزله هو وأصحابه بهذه الخطة. وبها كانت دار الصالح طلائع بن رزيك باني الجامع الصالحي خارج باب زويلة، وكان يسكنها قبل الوزراة؛ وخوخته بها معروفة إلى الآن بخوخة الصالح.
ومنها حارة كتامة على القرب من الجامع الأزهر بجوار الباطلية، وتعرف بقبيلة كتامة من البربر الواصلين صحبة جوهر من الغرب.
ومنها إصطبل الطارمة بظاهر مشهد الحسين، كان إصطبلاً للقصر، وبهذا الخط كانت دار الفطرة التي يعمل فيها فطرة العيد، بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر، وكانت الفطرة قبل ذلك تعمل بأبواب القصر، وسيأتي الكلام على الفطرة مستوفى في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومنها حارة الصالحية قبلي مشهد الحسين، كانت طائفة من غلمان الصالح طلائع بن رزيك قد سكنوها فعرفت بهم ونسبت إليهم.
ومنها البرقية قال ابن عبد الظاهر: اختطها قوم من أهل برقة قدموا صحبة جوهر فعرفت بهم. ورأيت بخط بعض الفضلاء بحاشية خطط ابن عبد الظاهر أن الصالح طلائع بن رزيك لما قتل عباساً وزير الظافر وتقلد الوزراة عن الآمر، أقام جماعة من الأمراء يقال لهم البرقية عوناً له واسكنهم هذه الخطة فنسبت إليهم.
ومنها قصر الشوك على القرب من رحبة الأيدمري، قال ابن عبد الظاهر: كان قبل عمارة القاهرة منزلة لبني عذرة تعرف بقصر الشوك.
ومنها خزانة البنود وكانت خزانة السلاح في الدولة الفاطمية، ثم جعلت سجناً في الأيام المستنصرية، ثم احتكرت بعد ذلك وجعلت آدراً.
ومنها رحبة باب العيد تنسب إلى باب العيد: أحد أبواب القصر المسمى بباب العيد المقدم ذكره.
ومنها درب ملوخية ينسب لملوخية صاحب ركاب الحاكم، وبه مدرسة القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وبه كانت داره.
ومنها العطوف وأصل اسمها العطوفية: نسبة إلى عطوف خادم الحاكم.
ومنها الجوانية قال ابن عبد الظاهر: وهي صفة لمحذوف، وأصلها حارة الروم الجوانية، وذلك أن الروم الواصلين صحبة جوهر اختطوا حارة الروم المتقدمة الذكر وهذه الحارة، وكان الناس يقولون: حارة الروم الجوانية فثقل ذلك عليهم، فأطلقوا على هذه الجوانية وقصروا اسم حارة الروم على تلك.
قال: والوراقون إلى هذا الوقت يقولون حارة الروم السفلى، وحارة الروم العليا المعروفة بالجوانية، ثم قال: ويقال إنها منسوبة إلى الأشراف الجوانيين الذين منهم الشريف الجواني النسابة.
وأما خططها المشهورة خارج السور: فمنها الحسينية كانت في الأيام الفاطمية ثماني حارات خارج باب الفتوح أولها: الحارة المعروفة بحارة بهاء الدين المتقدم ذكرها، وهي حارة حامد، والمنشأة الكبرى، والحارة الكبيرة، والمنشأة الصغيرة، وحارة عبيد الشراء، والحارة الوسطة، وسوق الكبير بمصر، والوزيرية، وكان يسكنها الطائفة المعروفة بالوزيرية والريحانية من الأرمن والعجمان وعبيد الشراء.
قال ابن عبد الظاهر: وكان بها من الأرمن قريب من سبعة آلاف نفس، ثم سكنها جماعة من الأشراف الحسينيين قدموا في أيام الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من الحجاز إلى مصر، فنزلوا بهذه الأمكنة واستوطنوها فسميت بهم، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وبنوا بها الأبينة العظيمة والآدر الضخمة.
قال ابن عبد الظاهر: هي أعظم حارات الجناد.
قلت: وذلك بحسب ما كان الحال عليه في زمانه، ولكنها قد خربت في زماننا هذا، وانتقل الأجناد إلى الأماكن القريبة من القلعة بصليبة الجامع الطولوني ونحوها.
وبنى بهاء الدين قراقوش خاناً للسبيل تنزله المارة وأبناء السبيل فعرف خطه به.
ومنها الخندق خارج الحسينية بالخندق؛ كان عنده خندق احتفره العزيز بالله الفاطمي، وكان المعز قد أسكن المغاربة هناك في سنة ثلاث وستين وثلثمائة حين تبسطوا في القرافة والقاهرة وأخرجوا الناس من منازلهم، وأمر منادياً ينادي لهم كل ليلة: من بات منهم في المدينة استحق العقوبة.
ومنها أرض الطبالة منسوبة لامرأة مغنية اسمها نشب، وقيل طرب، كانت مغنية المستنصر الفاطمي واسمه معد.
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: ولما ورد الخبر عليه بأنه خطب له ببغداد في نوبة البساسيري قريب السنة غنته نشب هذه:
يا بني العباس صدوا ** قد ولي الأمر معد

ملككم كان معاراً ** والعواري تسترد

فوهبها هذه الأرض في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فحكرت وبنيت آدراً فعرفت بها. قال: وكانت من ملح القاهرة وبهجتها؛ وفيها يقول ابن سعيد المغربي مجانساً بين القرط الذي ترعاه الدواب والقرط الذي يكون في الأذن:
سقى الله أرضاً كلما زرت روضها ** كساها وحلاها بزينته القرط

تجلت عروساً والمياه عقودها ** وفي كل قطر من جوانبها قرط

ومنها خط باب القنطرة قال ابن عبد الظاهر: ذكر لي علم الدين بن مماتي أنه في كتب الأملاك القديمة يسمى بالمرتاحية.
ومنها المقس قال القضاعي في خططه: كانت ضيعة تعرف بأم دنينٍ وكانت العاشر الذي يأخذ المكس يقعد بها لاستخراج المال، فقيل المكس بالكاف ثم ابدلت الكاف في الألسنة قافا.
قال ابن عبد الظاهر: ومن الناس من يقول فيه المقسم لأن قسمة الغنائم في الفتوح كانت فيه. قال: ولم أر ذلك مسطوراً، وكانت الدكة من نواحيه بستاناً إذا ركب الخليفة من الخليج يوم الكسر أتى إليه في البر الغربي من الخليج في مركبة ويدخله بمفرده فيسقي منه فرسه، ثم يخرج إلى قصره على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية، إن شاء الله تعالى.
قال ابن عبد الظاهر: والدكة الآن آدرٌ وحارات شهرتها تغني عن وصفها فسبحان من لا يتغير.
قلت: وقد خرب أكثر تلك الآدر والحارات حتى لم يبق منها إلا الرسوم، وبعضها باقٍ يسكنه آحاد للناس.
ومنها ميدان القمح كان قديماً بستاناً سلطانياً يسمى بالمقسي يدخل الماء إليه من الخليج المعروف بالخليج الذكر الذي بناه كافور الإخشيدي، ثم أمر الظاهر الفاطمي بنقل أنشابه وحفره وجعله بركة قدام اللؤلؤة، وأبقى الخليج المذكور مسلطاً على البركة ليستنقع الماء فيها. فلما ضعفت أمر الخلافة الفاطمية، وهجرت رسومها القديمة في التفرج في اللؤلؤة وغيرها، بنت السودان المعرفون بالطائفة الفرحية الساكنون بالمقس عند ضيقه عليهم قبالة اللؤلؤة حارة سميت حارة اللصوص بسبب تعديهم فيها مع غيرهم، ثم تنقلت بها الحال حتى صار على ما هو عليه الآن.
ومنها بر ابن التبان غربي خليج القاهرة، وينسب إلى ابن التبان رئيس حراقة الخلافة الفاطمية، وكان الآمر الفاطمي قد أمر بالعمارة قبالة الخرق غربي الخليج، فأول من عمر به ابن التبان المذكور، أنشأ به مسجداً وبستاناً وداراً فعرفت الخطة به إلى الآن.
ومنها خط اللوق وهو خط قديم متسع ينتهي إلى الميدان المعد لركوب السلطان عند وفاء النيل، قد عمر بالأبنية وسكنه رعاع الناس وأوباشهم والمكان المعروف الآن بباب اللوق جزء منه.
ومنها بركة الفيل وهي بركة عظيمة متسعة جنوبي سور القاهرة عليها الأبنية العظيمة المستديرة بها.
قال ابن عبد الظاهر: وتنسب إلى رجل من أصحاب ابن طولون يعرف بالفيل؛ وما أحسن قول ابن سعيد المغربي:
أنظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ** بها المناظر كالأهداب للبصر

كأنما هي والأبصار ترمقها ** كواكبٌ قد أداروها على القمر

ومنها خط الجامع الطولوني من الصليبة وما والآها، وقد تقدم في الكلام على خطط الفسطاط أن هذه الأرض كانت منازل لأحمد بن طولولن وعسكره، والجبل الذي في جانبها البحري يعرف بجبل يشكر، وعليه بناء الجامع الطولوني المذكور، واستحدث الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله عليه قصوراً جاءت في نهاية الحسن والإتقان، وهي المعروفة بالكبش، ولم يزل يسكنها أكابر الأمراء إلى أن خربها العوام في وقعة الجلبان قبل السبعين والسبعمائة، وهي على ذلك إلى الآن، وقد شرع الناس الآن في استحكار أماكنها للعمارة فيها في حدود سنة ثمانمائة.
ومنها خط حارة المصامدة وتنسب لطائفة المصامدة من البربر الذين قدموا مع المعز من المغرب، وكان المقدم عليهم عبد الله المصمودي، وكان المأمون بن البطائحي وزير الآمر قد قدمه ونوه بذكره، وسلم إليه أبوابه للمبيت عليها، وأضاف إليه جماعة من أصحابه.
ومنها الهلالية قال ابن عبد الظاهر: أظنها الحارة التي بناها المأمون بن البطائحي خارج الباب الجديد الذي بناه الحاكم بالشارع على يسرة الخارج منه للمصامدة لما قدمهم ونوه بذكرهم، وحذر أن يبني بينها وبين بركة الفيل حتى صارت هذه الحارة مشرفة على شاطيء بركة الفيل إلى بعض أيام الحافظ.
ومنها المنتجبية قال ابن عبد الظاهر: بلغني أنها منسوبة لشخص في الدولة الفاطمية يعرف بمنتجب الدولة.
ومنها اليانسية قال ابن عبد الظاهر: أظنها منسوبة ليانس وزير الحافظ، وكان يلقب بأمير الجيوش سيف الإسلام، ويعرف بيانس الفاصد لأنه فصد حسن أبن الحافظ، وتركه محلول الفصادة حتى مات.
قال: وكان في الدولة من اسمه يانس العزيزي، واليانسية: جماعة كانوا في زمن العزيز بالله، ومنهم يانس الصقلي، ونسبة هذه الحارة محتملة لأن تكون لكل منهم، وقد ذكر ابن عبد الظاهر عدة حارات كانت للجند خارج باب زويلة غير ما لعله ذكره سرداً، منها ما هو مشهور معروف، وهو حارة حلب، والحبانية، ومنها ما ليس كذلك وهو الشوبك، والمأمونية، والحارة الكبيرة، والمنصورة الصغيرة، وحارة أبي بكر.
وأما جوامعها فأقدمها الجامع الأزهر:
بناه القائد جوهر بعد دخول مولاه المعز إلى القاهرة وإقامته بها، وفرغ من بنائه وجمعت فيه الجمعة في شهر رمضان لسبع خلون من سنة إحدى وستين وثلثمائة، ثم جدد العزيز بن المعز فيه أشياء وعمر به أماكن وهو أول جامع عمر بالقاهرة.
قال صاحب نهاية الأرب: وجدده العزيز بن المعز، ولما عمر الحاكم جامعه نقل الخطبة إليه وبقي الجامع الأزهر شاغراً، ثم أعيدت إليه الخطبة وصلي فيه الجمعة في ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة في سلطنة الظاهر بيبرس، وتزايد أمره حتى صار أرفع الجوامع بالقاهرة قدراً.
قال ابن عبد الظاهر: وسمعت جماعة يقولون إن به طلسماً لا يسكنه عصفور.
الجامع الثاني الجامع الحاكمي:
بناه الحاكم الفاطمي على القرب من باب الفتوح وباب النصر، وفرغ من بنائه في سنة ست وتسعين وثلثمائة، وكان حين بنائه خارج القاهرة إذ كان بناؤه قبل بناء باب الفتوح وباب النصر الموجودين الآن، وكان هو خارج القوسين اللذين هما باب الفتوح وباب النصر الأولان.
ثم قال: وفي سيرة العزيز أنه اختط أساسه في العاشر من رمضان سنة تسع وسبعين وثلثمائة، وفي سيرة الحاكم أنه ابتدأه بعض الوزراء وأتمه الحاكم؛ وعلى البدنة المجاورة لباب الفتوح أنها بنيت في زمن المستنصر في أيام أمير الجيوش سنة ثمانين وأربعمائة، ثم استولى عليها من ملكها والزيادة التي إلى جانبه بناها الظاهر بن الحاكم ولم يكملها، ثم ثبت في الدولة الصالحية نجم الدين أيوب أنها من الجامع وأن بها محراباً، فانتزعت ممن هي معه وأضيفت للجامع، وبني بها ما هو موجود الآن في الأيام المعزية أيبك التركمانيّ ولم تسقف.
الجامع الثالث الجامع الأقمر:
بناه الآمر الفاطميّ بوساطة وزيره المأمون بن البطائحي؛ وكمل بناؤه في سنة تسع عشرة وخمسمائة؛ ويذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه.
قلت: ولم يكن به خطبة إلى أن جدّد الأمير يلبغا السالمي، أحد أمراء الظاهر برقوق عمارته في سنة إحدى وثمانمائة ورتّب فيه خطبة.
الجامع الرابع الجامع بالمقس بباب البحر، وهو المعروف بالجامع الأنور:
بناه الحاكم الفاطميّ أيضاً في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة.
الجامع الخامس الجامع الظافريّ، وهو المعروف الآن بجامع الفكّاهين:
بناه الظفر الفاطميّ داخل بابي زويلة في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان زريبة للكباش، وسبب بنائه جامعاً أن خادماً كان في مشترف على الزريبة فرأي ذبّاحاً وقد أخذ رأسين من الغنم فذبح أحدهما ورمى سكّينه وذهب لقضاء حاجة له، فأتى رأس الغنم الآخر فأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة، وجاء الذّبّاح فلم يجد السّكين، فاستصرخ الخادم وخلصه منه، فرفعت القصة إلى أهل القصر فأمروا بعمارته.
الجامع السادس الجامع الصالحي:
بناه الصالح طلائع بن رزّيك وزير الفائز والعاضد من الفاطميين خارج باب زويلة، بقصد نقل رأس الحسين عليه السلام من عسقلان إليه، عند خوف هجوم الفرنج عليها، فلما فرغ منه لم يمكّنه الفائز من ذلك، وابتنى له المشهد المعروف بمشهد الحسين بجوار القصر، ونقله إليه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة؛ وبنى به صهريجاً وجعل له ساقية تنقل الماء إليه من الخليج أيام النيل على القرب من باب الخرق.
ولم يكن به خطبة، وأول ما أقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزية أيبك التركماني في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وخطب به أصيل الدين أبو بكر الإسعردي؛ ثم كثرت عمارة الجوامع بالقاهرة في الدولة التركية خصوصاً في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون وما بعدها، فعمر بها من الجوامع ما لا يكاد يحصى كثرة؛ كجامع المارديني، وجامع قوصون خارج باب زويلة وغيرهما من الجوامع وأقيمت الجمعة في كثير من المدارس والمساجد الصغار المتفرقة في الأخطاط لكثرة الناس وضيق الجوامع عنهم.
وأما مدارسها- فكانت في الدولة الفاطمية وما قبلها قليلة الوجود بل تكاد أن تكون معدومة، غير أنه كان بجوار القصر دارٌ تعرف بدار العلم خلف خان نسرور، كان داعي الشيعة يجلس فيها، ويجتمع إليه من التلامذة من يتكلم في العلوم المتعلقة بمذهبهم، وجعل الحاكم لها جزءاً من أوقافه التي وقفها على الجامع الأزهر وجامع المقس وجامع راشدة؛ ثم أبطل الأفضل بن أمير الجيوش هذه الدار لاجتماع الناس فيها والخوض في المذاهب خوفاً من الإجتماع على المذهب النزاري، ثم أعادها لآمر بواسطة خدام القصر بشرط أن يكون متوليها رجلاً ديناً والداعي هو الناظر فيها، ويقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن.
وقد ذكر المسبحي في تاريخه: أن الوزير أبا الفرج يعقوب بن كلس سأل العزيز بالله في حمله رزق جماعة من العلماء، وأطلق لكل منهم كفايته من الرزق، وبنى لهم داراً بجانب الجامع الأزهر فإذا كان يوم الجمعة حلقوا بالجامع بعد الصلاة وتكلموا في الفقه، وأبو يعقوب قاضي الخندق رئيس الحلقة والملقي عليهم إلى وقت العصر، وكانوا سبعة وثلاثين نفراً.
ثم جاءت الدولة الأيوبية فكانت الفاتحة لباب الخير، والغارسة لشجرة الفضل، فابتنى الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر دار الحديث الكاملية بين القصرين في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقرر بها مذاهب الأئمة الأربعة وخطبةً، وبقي إلى جانبها خراب حتى بني آدراً في الأيام المعزية أيبك التركماني في سني خمسين وستمائة، ووقف على المدرسسة المذكورة، وبنى من بنى من أكابر دولتهم مدارس لم تبلغ شأو هذه، وشتان بين الملوك وغيرهم.
ثم جاءت الدولة التركية فأربت على ذلك وزادت عليه، فابتنى الظاهر بيبرس المدرسة الظاهرية بين القصرين بجوار المدرسة الصالحية، ثم ابتنى المنصور قلاوون المدرسة المنصورية من داخل بيمارستانه الآتي ذكره وجعل قبالتها تربةً سنية.
ثم ابتنى الناصر محمد بن قلاوون المدرسة الناصرية بجوار البيمارستان المذكور.
ثم ابتنى الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون مدرسته العظمى تحت القلعة، وهي التي لم يسبق إلى مثلها، ولا سمع في مصرٍ من الأمصار بنظيرها، ويقال إن إيوانها يزيد في القدر على إيوان كسرى بأذرع.
ثم ابتنى ابن أخيه الأشرف شعبان بن حسين المدرسة الأشرفية بالصوة تحت القلعة ومات ولم يكملها، ثم هدمها الناصر فرج بن الظاهر برقوق لتسلطها على القلعة في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ونقل أحجارها إلى عمارة القاعات التي أنشأها بالحوش بقلعة الجبل، ولم تعهد مدرسة قصدت بالهدم قبلها.
ثم ابتنى الظاهر برقوق مدرسته الظاهرية بين القصرين بجوار المدرسة الكاملية فجاءت في نهاية الحسن والعظمة، وجعل فيها خطبة، وقرر فيها صوفية على عادة الخوانق ودروساً للأئمة، وتغالى في ضخامة البناء، ونظم الشعراء فيها، فكان مما أتى به بعضهم من أبيات:
وبعض خدامه طوعاً لخدمته ** يدعو الصخور فتأتيه على عجل

وتواردوا كلهم على هذا المعنى، فاقترح علي بعض الأكابر نظم شيء من هذا المعنى فنظمت أبياتاً جاء منها:
وبالخليلي قد راجت عمارتها ** في سرعة بنيت من غير ما مهل

كم أظهرت عجباً أسواط حكمته ** وكم غدت مثلاً ناهيك من مثل

وكم صخورٍ تخال الجن تنقلها ** فإنها بالوحا تأتي وبالعجل

وفي خلال ذلك ابتنى أكابر الأمراء وغيرهم من المدارس ما ملأ الأخطاط وشحنها.
وأما الخوانق والربط- فمما لم يعهد بالديار المصرية قبل الدولة الأيوبية، وكان المبتكر لها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فابتنى الخانقاه الصلاحية المعروفة بسعيد السعداء، وسعيد السعداء لقب لخادم للمستنصر الفاطمي اسمه قنبر كانت الدار له، ثم صارت آخر الأيام سكن الصالح طلائع بن زريك، ولما ولي الوزارة فتح من دار الوزارة إليها سرداباً تحت الأرض، وسكنها شاور السعدي وزير العاضد ثم ولده الكامل.
فلما ملك السلطان صلاح الدين جعلها خانقاه، ووقف عليها قيسارية الشرب داخل القاهرة، وبستان الحبانية بزقاق البركة.
وأما مساجد الصلوات الخمس- فأكثر من أن تحصى وأعز من أن تستقصى، بكل خط منها مسجد أو مساجد لكل منها إمام راتب ومصلون.
وأما البيمارستان- فقال القاضي محيي الدبن بن عبد الظاهر: بلغني أن البيمارستان كان أولاً بالقشاشين، يعني المكان المعروف الآن بالخراطين على القرب من الجامع الأزهر، وهناك كانت دار الضرب بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر قبالة البيمارستان المذكور، وقرر دور الضرب بالإسكندرية وقوص وصور وعسقلان، ثم لما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الديار المصرية واستولى على القصر، كان في القصر قاعةٌ بناها العزيز بن المعز في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، فجعلها السلطان صلاح الدين بيمارستاناً، وهو البيمارستان العتيق الذي داخل القصر، وهو باقٍ على هيئته إلى الآن، ويقال إن فيها طلسماًُ لا يدخلها نمل، وإن ذلك هو السبب الموجب لجعلها بيمارستاناً.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: ولقد سألت المباشرين بالبيمارستان المذكور عن ذلك في سنة سبع وخمسين وستمائة فقالوا صحيح.
ثم ابتنى السلطان الملك المنصور قلاوون رحمه الله دار ست الملك أخت الحاكم، المعروفة بالدار القطبية، بيمارستانا في سنة ثلاث وثمانين وستمائة بمباشرة الأمير علم الدين الشجاعي، وجعل من داخله المدرسة المنصورية والتربة المتقدم ذكرهما، فبقي معالم بعض الدار على ما هو عليه، وغير بعضها. وهو من المعروف العظيم الذي ليس له نظير في الدنيا، ونظره رتبة سنية يتولاه الوزراء ومن في معناهم.
قال في مسالك الأبصار: وهو الجليل المقدار، الجليل الآثار، الجميل الإيثار، العظيم بنائه، وكثرة أوقافه، وسعة إنفاقه، وتنوع الأطباء والكحالين والجرائحية فيه.
قلت: ولم تزل القاهرة في كل وقت تتزايد عمارتها، وتتجدد معالمها، خصوصاً بعد خراب الفسطاط، وانتقال أهله إليها على ما تقدم ذكره حتى صارت على ما هي عليه في زماننا: من القصور العلية، والدور الضخمة، والمنازل الرحيبة، والأسواق المتدة، والمناظر النزهة، والجوامع البهجة، والمدراس الرائقة، والخوانق الفاخرة، مما لم يسمع بمثله في قطرٍ من الأقطار، ولا عهد نظيره في مصر من الأمصار.
وغالب مبانيها بالآجر، وجوامعها ومدارسها وبيوت رؤسائها مبنيةٌ بالحجر المنحوت، مفروشة الأرض بالرخام، مؤزرة الحيطان به، وغالب أعاليها من أخشاب النخل والقصب المحكم الصنعة؛ وكلها أو أكثرها مبيضةٌ الجدر بالكلس الناصع البياض، ولأهلها القوة العظيمة في تعلية بعض المساكن على بعض حتى إن الدار تكون من طبقتين إلى أربع طبقات بعضها على بعض، في كل طبقة مساكن كاملةٌ بمنافعها ومرافقها، وأسطحة مقطعة بأعلاها بهندسة محكمة، وصناعة عجيبة.
قال في مسالك الأبصار: لا يرى مثل صناع مصر في هذا الباب، وبظاهرها البساتين الحسان، والمناظر النزهة، والآدر المطلة على النيل، والخلجان الممتدة منه ومن مده؛ وبها المستنزهات المستطابة، خصوصاً زمن الربيع لغدرانها الممتدة من مقطعات النيل وما حولها من الزروع المختلفة وأزهارها المائسة التي تسر الناظر وتبهج الخاطر.
قال أبن الأثير في عجائب المخلوقات: وأجمع المسافرون براً وبحراً أنه لم يكن أحسن منها منظراً، ولا أكثر ناساً، وإليها يجلب ما في سائر أقاليم الأرض من كل شيء غريب وزي عجيب؛ وملكها ملكٌ عظيم، كثير الجيوش، حسن الزي لا يماثله في زيه ملكٌ من ملوك الأرض؛ وأهلها في رفاهية عيشٍ وطيب مأكل ومشرب؛ ونساؤه في غاية الجمال والظرف.
قال في مسالك الأبصار: أخبرني غير واحد من رأى المدن الكبار أنه لم ير مدينة اجتمع فيها من الخلق ما اجتمع فيه القاهرة.
قال: وسألت الصدر مجد الدين إسماعيل عن بغداد وتوريز هل يجمعان خلقاً مثل مصر؟ فقال: في مصر خلق قدر من في جميع البلاد.
قال في التعريف: والقاهرة اليوم أم الممالك، وحاضرة البلاد، وهي في وقتنا دار الخلافة، وكرسي الملك، ومنبع الحكماء، ومحط الرحال، ويتبعها كل شرق وغرب خلا الهند فإنه نائي المكان، بعيد المدى، يقع لنا من أخباره ما نكبره، ونسمع من حديثه ما لا نألفه.
قال: وكان يخلق لنا أن نجعل كل النطق بالقاهرة دائرة، وإنما نفردها بما اشتملت عليه حدود الديار المصرية، ثم ندير بأم كل مملكة نطاقها، ثم إليها مرجع الكل وإلى بحرها مصب تلك الخلج.
قال في مسالك الأبصار: إلا أن أرضها سبخة، ولذلك يعجل الفساد إلى مبانيها.
وذكر القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر نحو ذلك وأن المعز لام القائد جوهراً على بنائها في هذا الموضع، وترك جانب النيل عند المقس أو جنوبي الفسطاط حيث الرصد الآن.
القاعدة الثالثة القلعة:
بفتح القاف ويعبر عنها بقلعة الجبل، وهي مقرة السلطان الآن ودار مملكته.
بناها الطواشي بهاء الدين قراقوش المتقدم ذكره للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، وموقعها بين ظاهر القاهرة والجبل والفسطاط وما يليه من القرافة المتصلة بعمارة القاهرة والقرافة وطولها وعرضها على ما تقدم في الفسطاط أيضاً، وهي على نشز مرتفع من تقاطيع الجبل المقطم، ترتفع في موضع وتنخفض في آخر.
وكان موضعها قبل أن تبنى، مساجد من بناء الفاطميين: منها مسجد رديني الذي هو بين آدر الحريم السلطانية.
قال االقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: عرض علي الملك الكامل إمامته، فامتنعت لكونه بين آدر الحريم. ولم يسكنها السلطان صلاح الدين رحمه الله، ويقال: إن ابنه الملك العزيز سكنها مدة في حياة أبيه، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: كنا نطلع إليها قبل أن تسكن في ليالي الجمع نبيت متفرجين كما نبيت في جواسق الجبل والقرافة.
وأول من سكنها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب انتقل إليها من قصر الفاطميين سنة أربع وستمائة، واستقرت بعده سكناً للسلاطين إلى الآن.
ومن غريب ما يحكى أن السلطان صلاح الدين رحمه الله طلع إليها ومعه أخوه العادل أبو بكر، فقال السلطان لأخيه العادل: هذه القلعة بنيت لأولادك فثقل ذلك على العادل وعرف السلطان صلاح الدين ذلك منه، فقال: لم تفهم عني إنما أردت أني أنا نجيب فلا يكون لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فتكون أولادك نجباء فسري عنه، وكان الأمر كما قال السلطان صلاح الدين، وبقيت خالية حتى ملك العادل مصر والشام، فاستناب ولده الملك الكامل محمداً في الديار المصرية فسكنها.
وذكر في مسالك الأبصار أن أول من سكنها العادل أبو بكر، ولما سكنها الكامل المذكور، احتفل بأمرها واهتم بعمارتها وعمر بها أبراجاً، منها البرج الأحمر وغيره.
وفي أواخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة عمر بها السلطان الملك المنصور قلاوون برجاً عظيماً على جانب السر الكبير، وبنى عليه مشترفاتٍ حسنة البنيان، بهجة الرخام، رائقة الزخرفة، وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
ثم عمر بها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاثة أماكن، كملت بها معانيها، واستحق بها القلعة على بانيها:
أحدها- القصر الأبلق الذي يجلس به السلطان في عامة أيامه، ويدخل عليه فيه امراؤه وخواصه، وقد استجد به السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين رحمه الله في جانبه مقعداً بإزاء الإسطبلات السلطانية جاء في نهاية من الحسن والبهجة.
والثاني- الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان في أيام المواكب للخدمة العامة وإقامة العدل في الرعية.
والثالث- جامع الخطبة الذي يصلي فيه السلطان الجمعة، وستأتي صفة هذه الأماكن كلها.
وهذه القلعة ذات سور وأبراج، فسيحة الأفنية، كثيرة العمائر، ولها ثلاثة أبواب يدخل منها إليها: أحدها- من جهة القرافة والجبل المقطم، وهو أقل أبوابها سالكاً وأعزها استطراقاً.
والثاني- باب السر- ويختص الدخول والخروج منه بأكابر الأمراء وخواص الدولة: كالوزير وكاتب السر ونحوهما، يتوصل إليه من الصوة، وهي بقية النشز الذي بنيت عليه لقلعة من جهة القاهرة، بتعريج يمشي فيه مع جانب جدارها البحري حتى ينتهي إليه بحيث يكون مدخله منه مقابل الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان أيام المواكب، وهذا الباب لا يزال مغلقاً حتى ينتهي إليه من يستحق الدخول أو الخروج منه فيفتح له ثم يغلق.
والثالث- وهو بابها الأعظم الذي يدخل منه باقي الأمراء وسائر الناس، يتوصل إليه من أعلى الصوة المتقدم ذكرها، يرقي إليه في درج متناسبة حتى يكون مدخله في أول الجانب الشرقي من القلعة؛ ويتوصل منه ساحة مستطيلة ينتهي منها إلى دركاه جليلة يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول؛ وفي قبلي هذه الدركاه دار النيابة وهي التي يجلس بها النائب الكافل للحكم إذا كان ثم نائب وقاعة الصاحب وهي التي يجلس بها الوزير وكتاب الدولة، وديوان الإنشاء وهو الذي يجلس فيه كاتب السر وكتاب ديوانه، وكذلك ديوان الجيش وسائر الدواوين السلطانية.
وبصدر هذه الدركاه باب يقال له باب القلة، يدخل منه إلى دهاليز فسيحة، على يسرة الداخل منها بابٌ يتوصل منه إلى جامع الخطبة المتقدم ذكره؛ وهو من أعظم الجوامع، وأحسنها وأبهجها نظراً، وأكثرها زخرفة، متسع الأرجاء، مرتفع البناء، مفروش الأرض بالرخام الفائق، مبطن السقوف بالذهب؛ في وسطه قبة يليها مقصورة يصلي فيها السلطان الجمعة، مستورة هي والرواقات المشتملة عليها بشبابيك من حديد محكمة الصنعة، يحف بصحنه رواقات من جميع جهاته ويتوصل من ظاهر هذا الجامع إلى باب الستارة، ودور الحريم السلطانية.
وبصدر الدهاليز المتقدمة الذكر مصطبةٌ يجلس عليها مقدم المماليك، وعندها مدخل باب السر المتقدم ذكره، وفي مجنبة ذلك ممر يدخل منه إلى ساحة يواجه الداخل إليها باب الإيوان الكبير المتقدم ذكره، وهو إيوان عظيم عديم النظير، مرتفع الأبنية، واسع الأفنية، عظيم العمد، عليه شبابيك من حديد عظيمة الشأن محكمة الصنعة؛ وبصدره سرير الملك، وهو منبرٌ من رخامٍ مرتفعٌ، يجلس عليه السلطان في أيام المواكب العظام لقدوم رسل الملوك ونحو ذلك.
ويتيامن عن هذا الإيوان إلى ساحة لطيفة بها باب القصر الأبلق المتقدّم ذكره، وبنواحيها مصاطب يجلس عليها خواصّ الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة؛ ويدخل من باب القصر إلى دهاليز عظيمة الشأن، نبيهة القدر، يتوصّل منها إلى القصر المذكور، وهو قصر عظيم البناء، شاهق في الهواء، به إيوانان في جهتي الشّمال والجنوب، أعظمهما الشّماليّ، يطلّ منهما على الإصطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر منهما إلى سوق الخيل والقاهرة والفسطاط وحواضرها، إلى مجرى النيل، وما يلي ذلك منبلاد الجيزة والجبل وما والى ذلك؛ وبصدره منبر من رخام كالذي في الإيوان الكبير يجلس عليه السلطان أحياناً في وقت الخدمة على ما يأتي ذكره.
والإيوان الثاني وهو القبليّ خاص بخروج السلطان وخواصّه منه، من باب السر إلى الإيوان الكبير خارج القصر للجلوس فيه أيام المواكب العامّة، ويدخل من القصر المتقدّم ذكره إلى ثلاثة قصور جوّانية: واحد منها مسامت لأرض القصر الكبير، واثنان مرفوعان، يصعد إليهما بدرج؛ في جميعها شبابيك من حديد تشرف على ما يشرف عليه القصر، ويدخل من القصور الجوّانية إلى دور الحريم وأبواب الستور السلطانية؛ وهذه القصور جميعها ظاهرها بالحجر الأسود والأصفر، وداخلها مؤزّر بالرخام والفصّ المذهب المشجر بالصّدف وأنواع الملونات، والسقوف المبطّنة بالذهب واللاّزورد تخرق لضوء في جدرانها بطاقاتٍ من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع أرضها مفروشة بالرخام المنقول من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله.
قال في مسالك الأبصار: فأما الآدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبره أنها ذوات بساتين وأشجار ومناخات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور الدّواجن.
وخارج هذه القصور طباق واسعة للمماليك السلطانية، ودورٌ عظامٌ لخواص الأمراء من مقدّمي الألوف، ومن عظم قدره من امراء الطّبلخاناه والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاصكية إلى حكم البرانيين.
وبها بيوت ومساكن لكثير من الناس، وسوق للمآكل؛ ويباع بها النّفيس من السلاح والقماش مع الدّلالين يطوفون به.
وبهذه القلعة مع ارتفاع أرضها وكونها مبنية على جبل بئر ماء معين منقوبة في الحجر، احتفرها بهاء الدين قراقوش المتقدّم ذكره حين بناء القلعة، وهي من أعجب الآبار، بأسفلها سواقٍ تدور فيها الأبقار، وتنقل الماء في وسطها، وبوسطها سواق تدور فيها الأبقار أيضاً وتنقل الماء إلى أعلاها؛ ولها طريق إلى الماء ينزل البقر فيه إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك نحتٌ في الحجر ليس فيه بناء.
قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: وسمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت، جاء ماؤها عذباً فأراد قراقوش أو نوّابه الزيادة في مائها فوسع نقراً في الجبل، فخرجت منه عين مالحة غيرت عذوبتها. ويقال: إن أرضها تسامت أرض بركة الفيل؛ وهذه البئر ينتفع بها أهل القلعة فيما عدا الشرب من سائر أنواع الاستعمالات. أما شربهم فمن الماء العذب المنقول إليها من النيل بالرّوايا على ظهور الجمال والبغال مع ما ينساق إلى السلطان ودور أكابر الأمراء المجاورين للسلطان من ماء النيل في المجاري، بالسواقي النّقّالات والدواليب التي تديرها الأبقار وتنقل الماء من مقرّ إلى آخر حتّى ينتهي إلى القلعة، ويدخل إلى القصور والآدر في ارتفاع نحو خمسمائة ذراع.
وقد استجد السلطان الملك الظاهر برقوق بهذه القلعة صهريجاً عظيماً يملأ في كل سنة زمن النيل من الماء المنقول إلى القلعة من السواقي النّقّالات، ورتب عليه سبيلاً بالدّركاه التي بها دار النيابة يسقى فيه الماء وحصل به للناس رفق عظيم.
وتحت مشترف هذه القلعة مما يلي القصور السلطانية ميدانٌ عظيم يحول بين الإصطبلات السلطانية وسوق الخيل، ممرّج بالنجيل الأخضر، فسيح المدى، يسافر النظر في أرجائه، به أنواع من الوحوش المستحسنة المنظر، وتربط به الخواصّ من الخيول السلطانية للتفسح؛ وفيه يصلي السلطان العيدين على ما سيأتي ذكره؛ وفيه تعرض الخيول السلطانية في أوقات الاطلاقات ووصول التقادم والمشترى، وربما أطعم فيه الجوارح السلطانية؛ وإذا أراد السلطان النزول إليه خرج من باب إيوان القصر وركب من درج تليه إلى إصطبل الخيول الخاص، ثم نزل إليه راكباً وخواصّ الأمراء في خدمته مشاةٌ، ثم يعود إلى القصر كذلك.
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في خططه: وكان هذا الميدان وما حوله يعرف قديماً بالميدان، وبه قصر أحمد بن طولون وداره التي يسكنها، والأماكن المعروفة بالقطائع حوله على ما تقدم في خطط الفسطاط، ولم يزل كذلك حتى بنى الملك الكامل بن العادل بن أيوب هذا الميدان تحت القلعة حين سكنها، وأجرى السواقي النقالات من النيل إليه، وعمر إلى جانبه ثلاث برك تملأ لسقيه؛ ثم تعطل في أيامه مدةً، ثم أهتم به الملك العادل ولده، ثم أهتم به الصالح نجم الدين أيوب اهتماماً عظيماً، وجدد له ساقية أخرى، وغرس في جوانبه أشجاراً فصار في نهاية الحسن، فلما توفي الصالح تلاشى حاله إلى أن هدم في سنة خمسين وستمائة، أو سنة إحدى وخمسين في الأيام المعزية أيبك التركماني، وهدمت السواقي والقناطر وعفت آثارها، وبقي كذلك حتى عمره السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله، فأحسن عمارته ورصفه أبدع ترصيف، وهو على ذلك إلى الآن.
أما الميدان السلطاني الذي بخط اللوق، وهو الذي يركب إليه السلطان عند وفاء النيل للعب الكرة، فبناه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل به المناظر الحسنة ونصب الطوارق على بابه كما تنصب على باب القلاع وغيرها، ولم تزل الطوارق منصوبة عليه إلى ما بعد السبعمائة؛ وسيأتي الكلام على كيفية الركوب إليه في المواكب في الكلام على ترتيب المملكة فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والقلعة التي بالروضة تقدم الكلام عليها في الكلام على خطط الفسطاط.
ومما يتصل بهذه القواعد الثلاث ويلتحق بها القرافة التي هي مدفن أمواتها، وهي تربة عظيمة ممتدة في سفح المقطم، موقعها بين المقطم والفسطاط وبعض القاهرة، تمتد من قلعة الجبل المتقدم ذكرها آخذةً في جهة الجنوب إلى بركة الحبش وما حولها. وكان سبب جعلها مقبرة ما رواه ابن الحكم عن الليث بن سعد: أن المقوقس سأل عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فتعجب عمرو من ذلك، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: أن سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: إني لأرى غرس الجنة إلا للمؤمنين فاقبر بها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعها بشيء، فقال المقوقس لعمر: ما على ذا عاهدتنا، فقطع لهم قطعة تدفن فيها النصارى، وهي التي على القرب من بركة الحبش، وكان أول من قبر بسفح المقطم من المسلمين رجلاً من المعافر اسمه عامر، فقيل عمرت.
ويروى أن عيسى عليه السلام مر على سفح المقطم في سياحة ومعه أمه، فقال: يا أماه! هذه مقبرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيها ضارئح الأنبياء عليهم السلام كإخوة يوسف وغيرهم. وبها قبر آسية امرأة فرعون، ومشاهد جماعة من أهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء.
وقد بنى الناس بها الأبنية الرائقة، والمناظر البهجة، والقصور البديعة، يسرح الناظر في أرجائها، ويبتهج الخاطر برؤيتها؛ وبها الجوامع والمساجد والزوايا والربط والخوانق، وهي في الحقيقة مدينة عظيمة إلا أنها قليلة الساكن.